إن هذاالموضوع يتحدث عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم - تأسيسه وتوسعاته وتطور بنائه ومدى اهتمام الأمراء والسلاطين والملوك به - وما كتب في بدايته مما يتعلق بالمدينة المنورة بعامة إنما هو مقدمة وتوطئة ضرورية لموضوع الحديث عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا شك أن هذا المسجد الشريف هو من ثمار هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام . ذاك لأن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تعني نشأة أول دار إسلام إذ ذاك على وجه الأرض , وقد كان ذلك إيذانا بظهور الدولة الإسلامية بإشراف منشئها الأول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .
ولذا فقد كان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم , أن أقام الأسس الهامة لهذه الدولة , ولقد كانت هذه الأسس ممثلة في الأعمال الثلاثة التالية :
أولا: | بناء المسجد . |
ثانيا: | المؤاخاة بين المسلمين عامة والمهاجرين والأنصار خاصة . |
ثالثا: | كتابة وثيقة (دستور) حددت نظام حياة المسلمين فيما بينهم , وأوضحت علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة واليهود بصورة خاصة . |
وسنقتصر الكلام على الأساس الأول الذي هو بناء المسجد .
عندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داخل المدينة بركت ناقته في موضع كان لغلامين يتيمين من الأنصار من بني مالك بن النجار هما سهل وسهيل ابنا رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم , وكانا تحت كفالة معاذ بن عفراء أو أبو أمامة سعد بن زرارة أو كليهما , وكان أسعد بن زرارة قد اتخذه مصلى قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , فكان يصلي بأصحابه فيه . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى ذلك الموضع مسجدا , ودعا الغلامين فساوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه , فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله , فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير . وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور قديمة لبعض المشركين , فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت , وبالنخيل والشجر فقطعت , وصفت في قبلة المسجد , وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره 70 ذراعا , وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه , ثم بنوه باللبن , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر البناء مع أصحابه وينقل معهم الحجارة بنفسه , وجعل قبلته إلى بيت المقدس , وجعل عمده الجذوع , وسقفه بالجريد . وقيل له : ألا نسقفه ؟ فقال : (عريش كعريش موسى : خشيبات وثمام - نبت ضعيف قصير - الشأن أعجل من ذلك أما أرضه فقد فرشت بعد ذلك بالرمال والحصباء .
وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك , أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم , قال : ثم إنه أمر ببناء المسجد , فأرسل إلى ملأ من بني النجار فجاءوا , فقال : يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا , فقالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله . فقال أنس : فكان فيه ما أقول لكم : كانت فيه قبور المشركين , وكانت فيه خرب , وكان فيه نخل . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع , قال : فصفوا النخل قبلة المسجد قال : وجعلوا عضادتيه حجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول : اللهم لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة . ثم وسعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عودته من خيبر وكثر المسلمون فصار مائة ذراع طولا ومثل ذلك عرضا .
وقد ظل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الشكل دون أي زيادة أو تغيير على عهد أبي بكر رضي الله عنه . وقبل أن نتحدث عن التطور العمراني له نود أن نذكر لفتة جوهرية حول بناء المسجد أول كل شيء لنعرف عبر ودلائل هذا الاتجاه .
نأخذ من هذا الذي ذكرناه دلائل هامة نجملها فيما يلي :
1- مدى أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية : فقد أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد وصوله إلى المدينة المنورة واستقراره فيها على إقامة مجتمع إسلامي راسخ متماسك . يتألف من هؤلاء المسلمين , الأنصار والمهاجرين الذين جمعتهم المدينة المنورة . فكان أول خطوة قام بها في سبيل هذا الأمر بناء المسجد .
ولا غرو ولا عجب . فإن إقامة المسجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي , ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزامات نظام الإسلام وعقيدته وآدابه . وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه .
إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين . ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد . فما لم يتلاق المسلمون يوميا على مرات متعددة في بيت من بيوت الله وقد تساقطت مما بينهم فوارق الجاه والمال والاعتبار , لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تؤلف بينهم .
إن من نظام الإسلام وآدابه , أن تشيع روح المساواة والعدل فيما بين المسلمين في مختلف شئونهم وأحوالهم . ولكن شيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاق المسلمون كل يوم صفا واحدا بين يدي الله عز وجل . وقد وقفوا على صعيد مشترك من العبودية له , وتعلقت قلوبهم بربهم الواحد جل جلاله . ومهما انصرف كل مسلم إلى بيته يعبد الله يركع له ويسجد دون وجود ظاهرة الاشتراك والاجتماع في العبادة , فإن معنى العدالة والمساواة لن يتغلب في المجتمع على معاني الأثرة والتعالي والأنانية .
وإن من نظام الإسلام وآدابه أن ينصهر أشتات المسلمين في بوتقة من الوحدة الراسخة يجمعهم عليها حبل الله الذي هو حكمه وشرعه , ولكن ما لم تقم في أنحاء المجتمع مساجد يجتمع فيها المسلمون على تعلم حكم الله وشريعته ليتمسكوا بها عن معرفة وعلم فإن وحدتهم تئول إلى شتات , وسرعان ما تفرقهم عن بعضهم الشهوات والأهواء , فمن أجل تحقيق هذه المعاني كلها في مجتمع المسلمين ودولتهم الجديدة أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل كل شيء إلى بناء هذا الصرح الشامخ والأساس المتين (المسجد النبوي الشريف) .